فصل: تفسير الآيات (6- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (6- 11):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [6- 11].
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} قال أبو السعود: تعديد لما أفاض عليه من أول أمره إلى ذلك الوقت من فنون النعماء العظام، ليستشهد بالحاضر الموجود على المترقب الموعود فيطمئن قلبهُ وينشرح صدره. والهمزة لإنكار النفي وتقرير المنفيّ على أبلغ وجه، كأنه قيل: قد وجدك إلخ. والوجود بمعنى العلم.
روي «أن أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر، وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب وعطَّفه الله عليه فأحسن تربيته» وذلك إيواؤه {وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى} أي: غافلاً عما أوحاه إليك من الهدى والفرقان، فهداك إليه وجعلك إماماً له، كما في آية {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52].
قال الشهاب: فالضلال مستعار من: ضل في طريقه، إذا سلك طريقاً غير موصلة لمقصده لعدم ما يوصلهُ للعلوم النافعة، من طريق الاكتساب.
{وَوَجَدَكَ عَائِلاً} أي: فقيراً {فَأَغْنَى} أي: فأغناك بمال خديجة الذي وهبتهُ إياهُ. أو بما حصل لك من ربح التجارة.
{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} فلا تغلبهُ على ماله فتذهب بحقه، استعطافاً منك له.
{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} قال ابن جرير: أي: وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره، ولكن أطعمه واقض له حاجته، أي: لأن للسائل حقاً، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24- 25].
وقد ذهب الحسن- فيما نقله الرازي- إلى أن المراد من السائل من يسأل العلم، فيكون في مقابلة قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى} وهكذا قال ابن كثير: أي: وكما كنت ضالاً فهداك الله، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد. قال الإمام: ويؤيد هذا المعنى ما ورد في أحوال الذين كانوا يسألونه عليه الصلاة والسلام بيان ما يشتبه عليهم، فمنهم أهل الكتاب الممارون، ومنهم الأعراب الجفاة. ومنه من كان يسأل عما لا يسال عنه الأنبياء، فلا غرو أن يأمره الله بالرفق بهم، وينهاه عن نهرهم، كما عاتبهُ على التوليّ عن الأعمى السائل، في سورة عبس. انتهى.
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أي: بشكرها وإظهار آثارها فيرغب فيما لديه منها، ويحرص على أن تصدر المحاويج عنها. وهذا هو سر الأمر بالتحدث بها. وفي الآية تنبيه على أدب عظيم وهو التصدي للتحدث بالنعمة وإشهارها، حرصاً على التفضل والجود والتخلق بالكرم، وفراراً من رذيلة الشح الذي رائده كتم النعمة والتمسكن والشكوى.
قال الإمام: من عادةالبخلاء أن يكتموا مالهم، لتقوم لهم الحجة في قبض أيديهم عن البذل، فلا تجدهم إلا شاكين من القل. أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل ما آتاهم الله من فضله ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه. فلهذا صح أن يجعل التحديث بالنعمة كناية عن البذل وإطعام الفقراء وإعانة المحتاجين. فهذا من قوله:
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أي: إنك لما عرفت بنفسك ما يكون فيه الفقير، فأوسع في البذل على الفقراء. وليس القصد هو مجرد ذكر الثروة، فإن هذا من الفجفجة التي يتنزه عنها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف عنه في امتثال هذا الأمر أنه كان يذكر ما عنده من نقود وعروض، ولكن الذي عرف منه أنه كان «ينفق ما عنده ويبيت طاوياً». وقد يقال: أن المراد من النعمة النبوة، ولكن سياق الآيات يدل على أن هذه الآية مقابلة لقوله:
{وَوَجَدَكَ عَائِلاً} فتكون النعمة بمعنى الغنى، ولو كانت بمعنى النبوة، لكانت مقابلة لقوله:
{وَوَجَدَكَ ضَالّاً} وقد علمت الحق في مقابله. والله أعلم.

.سورة الشرح:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 4):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [1- 4].
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} أي: ألم نوسعه بإلقاء ما يسرهُ ويقويه، وإظهار ما خفي عليه من الحكم والأحكام، وتأييده وعصمته، حتى علم ما لم يعلم، وصار مستقرّ الحكمة ووعاء حقائق الأنباء. والهمزة لإنكار النفي، ونفي النفي إثبات، ولذا عطف المثبت عليه.
وأصل الشرح بسط اللحم ونحوه، مما فيه توسيع مستلزم لإظهار باطنه وما خفي منه. استعمل في القلب الشرح والسعة، لأنه محل الإدراك لما يسرّ وضده، فجعل إدراكه لما فيه مسرة يزيل ما يحزنه، شرحاً وتوسيعاً؛ وذلك لأنه بالإلهام ونحوه مما ينفس كربه ويزيل همهُ، بظهور ما كان غائباً عنهُ وخفياً عليه، مما فيه مسرتهُ، كما يقال: شرح الكتاب، إذا وضحه. ثم استعمل في الصدر الذي هو محل القلب مبالغة فيه؛ لأن اتساع الشيء يتبعه اتساع ظرفه، ولذا تسمع الناس يسمون السرور بسطاً، ثم سموا ضده ضيقاً وقبضاً، وهو من المجاز المتفرع على الكناية بوسائط، وبعد الشيوع زال الخفاء وارتفعت الوسائط، هذا ما حققه الشهاب.
{وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} قال الشهاب: الوزر الحِمل الثقيل. ووضعه: إزالته عنه. لأنه إذا تعدى بعلى كان بمعنى التحميل، وإذا تعدى بمن كان بمعنى الإزالة. والإنقاض: حصول النقيض وهو صوت فقرات الظهر. وقيل: صوت الجمل أو الرحْل أو المركوب إذا ثقل عليه. فالإنقاض التثقيل في الحمل حتى يسمع له نقيض، أو صوت، كما قاله الأزهريّ. وقال ابن عرفة: هو إثقال يجعل ما حمل عليه نقضاً، أي: مهزولاً ضعيفاً. وقد مثل بذلك حاله صلوات الله عليه مما كان يثقل عليه ويغمه من قلة المستجيبين لدعوته، وضعف من سبق إلى الإيمان به، وشيوع الشرك والضلال في جزيرة العرب، وقوة أهلها. ووضعه عنه هو كثرة من آمن بعدُ، ودخولهم في دين الله أفواجاً، وقوة أتباعه وانمحاء الشرك والجاهلية من الجزيرة، وذلُّ أهلها بعد العز، وانقيادهم بعد شدة الإباء. وقيل: الآية كناية عن عصمته وتطهيره من دنس الآثام كقوله:
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].
والوجه الأول أقوى، وفي الآية- على كلٍّ- استعارة تمثيلية، والوضع ترشيح لها.
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} أي: بالنبوة وفرض الاعتراف برسالته وجعله شرطاً في قبول الإيمان وصحته. وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
وعن مجاهد: أي: لا أذْكَر إلا ذكرتَ معي. قال الشهاب وهذا- أي: المأثور عن مجاهد- إن أخذ كلية خالف الواقع، فإنه كم ذكر الله وحده! وكم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وحده! وإن عيِّن موضعاً فهو ترجيح بلا مرجح، وإن جعلت القضية مهملة، فلا يخفى ما في الإهمال من الركاكة.
قال: وقد أمعنت فيه النظر فلم أر ما يثلج الصدر، ويردّ السائل غير صفر، حتى لاح لي أن الجواب الحق أن يقال: الذكر محمول على الذِّكر في مجامع العبادة ومشاهدها، فإن ذكره صلى الله عليه وسلم مقرون بذكره فيها في الواقع في الصلوات والخطب، فلا ترى مشهداً من مشاهد الإسلام إلا وهو كذلك، فلا ينفك ذكره صلى الله عليه وسلم عن ذكره تعالى في يوم من الأيام، ولا ليلة من الليالي بل ولا في وقت من الأوقات المعتدّ بها، فتتجه الكلية.
فإن قلت: من أين لك هذا التقييد، فهل هو إلا ترجيح من غير مرجح؟
قلت: المقام ناطق بهذا القيد، فإن المراد التنويه بذكره صلى الله عليه وسلم وإشاعة قدره الدال على ُقربه صلى الله عليه وسلم من ربه، كقرب اسمه من اسمه، وإنما يكون هذا بذكره في المحافل والمشاهد والجوامع والمساجد، وأيُّ إشاعة أقوى من الآذان؟ لا في الأسواق والطرق التي يطرح فيها كل ذكر.
ثم قال: واعلم أن تحقيق هذا المقام ما قالهُ الإمام الشافعيّ في أول رسالته الجديدة وبينهُ السبكيّ في تعليقه على الرسالة فقال رحمه الله تعالى:
قال الإمام رضي الله تعالى عنه، عن مجاهد في تفسير الآية: لا أذْكر إلا ذكِرت معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. قال الشافعي: يعني ذكره عند الإيمان بالله والأذان، ويحتمل ذكرهُ عند تلاوة القرآن وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية.
قال السبكيّ: هذا الاحتمال من الشافعيّ جيد جدًّا، وهو مبني على أن المراد بالذكر، الذكر بالقلب، وهو صحيح، فعلى هذا يعم؛ لأن الفاعل للطاعة أو الكافّ عن المعصية امتثالاً لأمر الله تعالى به، ذاكراً للنبي صلى الله عليه وسلم بقلبه؛ لأنه المبلغ لها عن الله، هذا أعم من الذكر باللسان، فإنه مقصور على الإسلام والأذان والتشهد والخطبة ونحوها. قال الشافعيّ: فلم تُمْسِ بنا نعمة ظهرت ولا بطنت، نلنا بها حظاً في دِين أو دنيا، أو رُفع عنا بها مكروه فيهما أو في واحد منهما، إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها، فعلم من هذا أنه إن أبقى العموم والحصر على ظاهره، حمل الذكر القلبيّ فيشمل كل موطن من مواطن العبادة والطاعة، فإن العاقل المؤمن إذا ذكر الله، تذكر من دل على معرفته وهداهُ إلى طاعته، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قيل:
فأنت باب الله أي امرئ ** أتاهُ من غيرك لا يدخل

ولك أن تقول: المراد برفع ذكره تشريفه صلى الله عليه وسلم بمقارنته لذكره في شعائر الدين الظاهرة، وأولها كلمتا الشهادة، وهما أساس الدِّين ثم الأذان والصلاة والخطب، فالحصر إضافيّ. انتهى كلام الشهاب.

.تفسير الآيات (5- 8):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [5- 8].
وقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} إشارة إلى أن الذي منحهُ- صلوات الله عليه- من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر، بعد ضيق الأمر واستحكام حلقات الكرب في أول السير، كان على ما جرت به سنتهُ تعالى في هذا النوع من الخليقة، وهو أن مع العسر يسراً، ولهذا وصل العبارة بالفاء التي لبيان السبب. وأل في {الْعُسْرِ} للاستغراق ولكنه استغرق بالمعهود عند المخاطبين من أفراده أو أنواعه، فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف وجهل الصديق وقوة العدوّ، وقلة الوسائل إلى المطلوب ونحو ذلك مما هو معهود ومعروف، فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت، وكانت النفس حريصة على الخروج منها طالبة لكشف شدتها، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل على ما من شأنه أن يعدّ لذلك في معروف العقل، واعتصمت بعد ذلك بالتوكل على الله حتى لا تضعفها الخيبة لأول مرة، ولا يفسخ عزيمتها ما تلاقيه عند الصدمة الأولى، فلا ريب في أن النفس تخرج منها ظافرة. وقد كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ضيق الأمر عليه كان يحمله على الفكر والنظر، حتى آتاه الله ما هو أكبر من ذلك، وهو الوحي والنبوة، ثم لم تكسر مقاومات قومه شيئاً من عزمه، بل ما زال يلتمس الغنى في الفقر، والقوة في الضعف، حتى أوتي من ذلك ما زعزع أركان الأكاسرة والقياصرة وترك منه لأمته ما تمتعت به أعصاراً طوالاً. أفاده الإمام رحمه الله.
لطيفة:
تنكير {يُسْراً} للتعظيم، والمراد يسر عظيم وهو يسر الدارين. وفي كلمة {مَعَ} إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر، كأنه مقارن للعسر، فهو استعارة، شبه التقارب بالتقارن، فاستعير لفظ {مَعَ} لمعنى: بعد.
وقوله تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} تكرير للتأكيد، أو عِدةٌ مستأنفة بأن العسر مشفوع بيسر آخر كثواب الآخرة، وعليه أثر: «لن يغلب عسر يسرين» فإن المعرف إذا أعيد يكون الثاني عين الأول، سواء كان معهوداً أو جنساً، وأما المنكّر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالأول.
{فَإِذَا فَرَغْتَ} أي: من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك {فَانصَبْ} أي: خذ في عمل آخر واتعب فيه، فإنك تجد لذة الراحة عقب النصب بما تجنيه من ثمرة العمل، قاله الإمام.
{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أي: في الدعوة إليه، أي: لا ترغب إلا إلى ذاته، دون ثواب أو غرض آخر، لتكون دعوتك وهدايتك إليه، قاله القاشاني.
وقال ابن جرير: اجعل نيتك ورغبتك إليه دون من سواه من خلقه؛ إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد. والأظهر عندي- اعتماداً على ما صححناه من أن الآية مدنية وأنها من أواخر ما نزل- أن يكون معنى قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} أي: فرغت من مقارعة المشركين، وظفرت بأمنيتك منهم، بمجيء نصر الله والفتح، فانصب في العبادة والتسبيح والاستغفار، شكراً لله على ما أنعم، وأرغب إليه خاصة ابتغاءً لمرضاته، فتكون الآيتان بمعنى سورة: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ثم رأيت ابن جرير نقل مثله عن ابن زيد عن أبيه قال: فإذا فرغت من الجهاد، جهاد العرب وانقطع جهادهم، فانصب لعبادة الله وإليه فارغب. وهو ظاهر. نعم لفظ الآية عام فيما أثرناه جميعهُ، إلا أن السياق والنظائر- وهو أهم ما يرجع إليه- يؤيد ما قاله ابن زيد واعتمدناه. والله أعلم.

.سورة التين:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [1- 3].
اعلم أن المفسرين لم يختلفوا في أن البلد الأمين مكة المشرفة، الآمن أهلها أن يحارَبوا كما قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، وأما المقسمات بها قبل، ففيها أقوال للسلف لاحتمال موادها لكل منها، فعن مجاهد والحسن وغيرهما أن التين الذي يؤكل، و{الزَّيْتُونَ} الذي يعصر. قالوا: وخصهما لكثرة فوائدهما وعظم منافعهما. وعن قتادة التين الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون الذي عليه بيت المقدس. وعن كعب وابن زيد: التين مسجد دمشق والزيتون بيت المقدس. فظهر أنهما الشجران المعلومان أو جبلان أو مسجدان. وصوب ابن جرير الأول منها، وعبارته: والصواب من القول في ذلك عندنا، قول من قال {التِّين}: هو التين الذي يؤكل، و{الزَّيْتُون} هو: الزيتون الذي يعصر منه الزيت؛ لأن ذلك هو المعروف عند العرب. ولا يعرف جبل يسمى تيناً ولا جبل يقال له: زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام، القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون، فيكون ذلك مذهباً وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك، دلالة في ظاهر التنزيل ولا من قول من لا يجوِّز خلافهُ، لأن دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون. انتهى كلامه. وفيه نظر، لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ. كيف وجبل الزيتون هو من جبال فلسطين، معروف ذلك عند علماء أهل الكتاب والمؤلفين في تقويم البلاد.
قال صاحب الذخيرة في تعداد جبال فلسطين: ويتصل بجبال إسرائيل جبل الزيتون. قال: وقد دعي كذلك لكثرة الزيتون فيه، وهو قريب المسافة من أورشليم، وفيه صعد المسيح لكي يرتفع إلى السماء. انتهى.
ويسمى أيضاً طور زيتاً إلى الآن، على أن فيما صوبهُ ابن جرير، تبقى المناسبة بينهما وبين طور سينين والبلد الأمين وحكمة جمعهما معهما في نسق واحد- غير مفهومة، كما قاله الإمام. فالأرجح أنهما موضعان أو موضع واحد معظم، ويكون المقسم به ثلاثة مواضع مقدسة.
قال ابن كثير: وقال بعض الأئمة: هذه محَالّ ثلاثة بعث الله من كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار:
فالأول محل التين والزيتون وهو بيت المقدس الذي بعث الله فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام.
والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران.
والثالث: مكة وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسل فيه محمد صلى الله عليه وسلم وفي التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء الله من طور سيناء: يعني الذي كلم الله عليه موسى. وأشرق من ساعير: يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله عنه عيسى. واستعلن من جبال فاران: يعني جبال مكة التي أرسل الله منها محمداً صلى الله عليه وسلم. فذكرهم مخبراً عنهم على الترتيب الوجوديّ بحسب ترتيبهم في الزمان. ولهذا أقسم بالأشرف، ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما. انتهى كلام ابن كثير.
ومرادهُ ببعض الأئمة، شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان، فإنه ذكر ذلك في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ونحن ننقلها زيادة في إيضاح المقام، واهتماماً بتحقيقه، قال رحمه الله فصل شهادة الكتب المتقدمة بنبوته صلى الله عليه وسلم: وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية: جاء الله من طور سيناء. وبعضهم يقول في الترجمة: تجلى الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران. قال كثير من العلماء- واللفظ لأبي محمد بن قتيبة-: ليس بهذا خفاء على من تدبره، ولا غموض؛ لأن مجيء الله من طور سيناء، إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء، كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا. وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير، إنزاله على المسيح الإنجيل. وكان المسيح من ساعير أرض الجليل بقرية تدعى ناصرة، وباسمها تسمى من اتبعهُ نصارى. وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران، إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبال فاران، وهي جبال مكة.
قال: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة. فإن ادعوا أنها غير مكة- وليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم- قلنا أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟ وقلنا: دلُّونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمهُ فاران، والنبيّ الذي أنزل عليه كتاباً بعد المسيح، أو ليس استعلن وعلن بمعنى واحد وهما: ظهر وانكشف. فهل تعلمون ديناً ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوّه؟.
وقال أبو هاشم بن طفر: ساعير جبل بالشام، منهُ ظهرت نبوة المسيح عليه السلام.
قلت: وبجانب بيت لحم- القرية التي ولد فيها المسيح- قرية تسمى إلى اليوم ساعير. ولها جبال تسمى جبال ساعير، وعلى هذا فيكون ذكر الثلاثة الجبال: جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه، وفيه كان أول نزول الوحي على النبيّ صلى الله عليه وسلم وحوله من الجبال جبال كثيرة. وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم. وفيه كان ابتداء نزول القرآن. والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران، ولا يمكن أحداً أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبيّ، فعلم أن ليس المراد باستعلانه من جبال فاران، إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم. وهو سبحانهُ ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزمانيّ فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن، وهذه الكتب نور الله وهداه، وقال في الأول: جاء أو ظهر. وفي الثاني: أشرق. وفي الثالث: استعلن. وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك. ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى. وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء. ولهذا قال: واستعلن من جبال فاران، فإن محمداُ صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الشمس إذا استعلنت في مشارق الأرض ومغاربها، ولهذا سماهُ الله سراجاً منيراً، وسمى الشمس سراجاً وهاجاً، والخلق محتاجون إلى السراج المنير، أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج، فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت، بل قد يتضررون به بعض الأوقات. وأما السراج المنير فيحتاجون إليه في كل وقت، وكل مكان، ليلاً ونهاراً، سراً وعلانيةً. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «زُويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها». وهذه الأماكن الثلاثة، أقسم الله بها في القرآن في قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} فأقسم بالتين والزيتون، وهو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك، ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل، وأقسم بطور سيناء وهو الجبل الذي كلم الله موسى وناداهُ فيه من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأقسم بهذا البلد الأمين وهو مكة الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل وأمهُ هاجر فيه. وهو الذي جعله الله حرماً آمناً ويتخطف الناس من حوله، وجعله آمناً خلقاً وأمراً قدراً وشرعاً.
ثم قال ابن تيمية: فقوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة التي ظهر فيها نوره وهداهُ، وأنزل فيها كتبه الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن. كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله: جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران.
ولما كان ما في التوراة خبراً عنها، أخبر بها على ترتيبها الزماني، فقدم الأسبق فالأسبق وأما في القرآن، فإنه أقسم بها تعظيماً لشأنها؛ وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وآياته وكتبه ورسله، فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة، فختمها بأعلى الدرجات، فأقسم أولاً بالتين والزيتون، ثم بطور سينين، ثم بمكة؛ لأن أشرف الكتب الثلاثة القرآن ثم التوراة ثم الإنجيل، وكذلك الأنبياء فأقسم بها على وجه التدريج كما في قوله:
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} [الذاريات: 1- 4]، فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة، فأقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحاب الحاملات للمطر فإنها فوق الرياح، ثم بالجاريات يسراً، وقد قيل: إنها السفن، ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15- 16]، فسماها جوارٍ كما سمى الفلك جواري في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى: 32]، والكواكب فوق السحاب ثم قال: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} [الذاريات: 4]، وهي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله.
واستظهر بعض المعاصرين أن قوله تعالى: {وَالتِّينِ} يعني به شجرة بوذا مؤسس الديانة البوذية، التي تحرفت كثيراً عن أصلها الحقيقي؛ لأن تعاليم بوذا لم تكتب في زمنه وإنما رويت كالأحاديث بالروايات الشفهية، ثم كتبت بعد ذلك حينما ارتقى أتباعها.
ثم قال: والراجح عندنا، بل المحقق إذا صح تفسيرنا لهذه الآية أنهُ كان نبياً صادقاً ويسمى: سكياموتي، أو جوناما، وكان في أول أمره يأوي إلى شجرة تين عظيمة وتحتها نزل عليه الوحي، وأرسله الله رسولاً، فجاءه الشيطان ليفتنه هناك فلم ينجح معه. ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين، وتسمى عندهم: التينة المقدسة، وبلغتهم: أجابالا.
قال: ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعظم أديان البشر الأربعة الموحاة منه تعالى لهدايتهم ونفعهم في دينهم ودنياهم، فالقسم فيها كالتمهيد لقوله بعده: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} إلى آخر السورة.
قال: ولا يزال أهل الأديان الأربعة هم أعظم أمم الأرض وأكثرهم عدداً وأرقاهم. والترتيب في ذكرها في الآية هو باعتبار درجة صحتها بالنسبة لأصولها الأولى، فبدأ تعالى بالقسم بالبوذية لأنها أقل درجة في الصحة وأشد الأديان تحريفاً عن أصلها، كما يبدأ الْإِنْسَاْن بالقسم بالشيء الصغير، ثم يرتقي للتأكيد إلى ما هو أعلى، ثم النصرانية وهي أقل من البوذية تحريفاً، ثم اليهودية وهو أصح من النصرانية، ثم الإسلامية وهو أصحها جميعاً وأبعدها عن التحريف والتبديل، بل إن أصولها: الكتاب والسنة العملية المتواترة، لم يقع فيها تحريف مطلقاً. ومن محاسن هذه الآية الشريفة غير ذلك، ذكر ديني الفضل: البوذية والمسيحية أولاً، ثم ديني العدل: اليهودية والإسلامية ثانياً؛ للإشارة إلى الحكمة بتربية الفضل والمسامحة مع الناس أولاً. ثم تربية الشدة والعدل. وكذلك بدأ الإسلام باللين والعفو ثم بالشدة والعقاب. ولا يخفى على الباحثين التشابه العظيم بين بوذا وعيسى ودينهما، وكذلك التشابه بين موسى ومحمد ودينهما، فلذا جُمع الأولان معاً والآخران كذلك، وقدم البوذية على المسيحية لقدم الأولى، كما قدم الموسوية على المحمدية لهذا السبب بعينه. ومن محاسن الآية أيضاً الرمز والإشارة إلى ديني الرحمة بالفاكهة والثمرة، وإلى ديني العدل بالجبل والبلدة الجبلية: مكة، وهي البلد الأمين. ومن التناسب البديع بين ألفاظ الآية أن التين والزيتون ينبتان كثيراً في أودية الجبال، كما في جبل الزيتون بالشام وطور سيناء، وهما مشهوران بها. فهذه الآية قسم بأول مهابط الوحي، وأكرم أماكن التجلي الإلهي على أنبيائه الأربعة، الذين بقيت شرائعهم للآن، وأرسلهم الله لهداية الناس الذين خلقهم في أحسن تقويم. انتهى بحروفه. والله أعلم.
لطيفة:
لم ينصرف {سِينِينَ} كما لا ينصرف سيناء؛ لأنه جعل اسماً للبقعة أو الأرض، فهو علم أعجميّ. ولو جعل اسماً للمكان أو المنزل أو اسماً لمذكر لانصرف، لأنك سميت به مذكراً. وقرأ العامة: {سِينِينَ} بكسر السين، وقرأ بعض السلف بفتحها، وآخرون: سيناء بالكسر والفتح ممدوداً. قال السمين: وهذه لغات اختلف في هذا الإسم السريانيّ، على عادة العرب في تلاعبها بالأسماء الأعجمية.